الشرح:
لقد أطال المصنف رحمه الله في هذا الموضوع، وكلامه واضح -والحمد لله- وسوف نستعرض كلامه ثم نعضده بكلام بعض العلماء الآخرين، مثل
شيخ الإسلام و
ابن القيم، وبعض علماء الدعوة، كالشيخ
سليمان بن سحمان رحمهم الله وأمثالهم، ولكن لوضوحه ولتفصيله نستعرضه أولاً لنفهم مراده منه.
فقوله رحمه الله: "وأما الشخص المعين"، (أما) للتفصيل، وهذا دليل على أنه قد ذكر قبلها شيئاً آخر، وهو ما يتعلق بالفرقة، أي: (من قال كذا) أو (من اعتقد كذا)، على سبيل الإجمال، ولا يقصد بذلك إنساناً معيناً بذاته، كما قال المصنف سابقاً: "قد قال كثير من
أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها"، ومثله ما ذكره أيضاً عن
أبي حنيفة رحمه الله كغيره من علماء
السلف أن: (من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر)، وكما يقال أيضاً: من أنكر أسماء الله وصفاته، أو أنكر الرؤية فهو كافر، وهكذا...
فهذه العبارات كان
السلف الصالح يطلقونها وهم أشد الناس تحرزاً، وأبعد الناس عن الوقوع في البغي أو الظلم أو الجور أو مجانبة العدل، ولا شك أن هذه الأقوال حق، لكن
السلف الصالح رضي الله عنهم قالوها مطلقة لا معينة، ولذلك نجدهم في المعين قد يختلفون؛ فمثلاً:
بشر المريسي منهم من كفره ومنهم من لم يكفره، وكذلك
النظام، لكن قد يتفقون على تكفير ضال خرج من الدين ومرق من الملة كـ
الحلاج؛ فإن كل من نقل سيرته من المؤرخين والعلماء والفقهاء قد اتفقوا على تكفيره، وكذلك
الفلاسفة كفروا بأعيانهم؛ مثل
الكندي، و
الفارابي، و
ابن سينا، و
الرازي الطبيب، وأمثالهم ممن نص على تكفيرهم بأعيانهم في كلام
السلف وغيرهم، كما تمتلئ كتب الرجال بأنواع من هذا ممن اشتهر كفره وزندقته وإلحاده وخروجه من الدين.
ويوجد كثير مختلف فيه، فمنهم من يعذره ومنهم من يكفره، كما ذكرنا عن
بشر المريسي وغيره؛ وذلك لأن تطبيق الحكم على المعين قابل لاختلاف وجهات النظر، فالحكم العام على الفعل شيء، وتطبيقه وتنزيله على المعين شيء آخر.
ولنأخذ بعض الأحكام المعلومة غير مسألة التكفير في الأحكام التنفيذية؛ كالحدود مثلاً: فإن الله سبحانه وتعالى قد نص في القرآن على حد الزنا فقال: ((
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ))[النور:2]، فهذا حد ذكره الله سبحانه وتعالى صريحاً في كتابه، وهو أن من ارتكب جريمة الزنا فإنه يجلد مائة جلدة، وهذا الحد نعتقده وندين الله به، وهذا هو الواجب على كل مسلم، ولا يجوز اعتقاد غير ذلك؛ لأن الله تعالى نص على هذه العقوبة، كما نص الله سبحانه وتعالى في القرآن على حد السرقة في قوله: ((
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))[المائدة:38]، فنحن أيضاً نعتقد وندين الله سبحانه وتعالى بأن عقوبة السارق هي القطع، وهذا أمر غير قابل للنقاش، ومن اعتقد غير ذلك فقد رد ما في كتاب الله، لكن تطبيق هذه الحدود على معين لا بد أن تستوفي فيها الشروط وأن تنتفي الموانع، وذلك يحتاج إلى نظر يسمى: تحقيق المناط.
وكذلك مسألة التكفير أو التبديع، فإذا قلنا: إن من فعل كذا فهو كافر، أو من فعل كذا فهو مبتدع، ولنا من الأدلة أنه قد ذُكِر ذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أنه مما ذكره
السلف الصالح الذين لا يأخذون أحكامهم إلا من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خطأ في ذلك، بل نقول: يجب أن يقال: إن الكافر كافر، وإن المبتدع مبتدع، وإن الضال ضال، فكل ما أخبر به الله ورسوله ونقل عن
السلف الصالح يجب أن يقال وأن يبلغ؛ حتى تكون الأمة على علم ومعرفة بهذه الأحكام، لكن المعين لا نطلق عليه الاسم وما يترتب على الاسم إلا ببينة؛ لأن مجرد الإطلاق ليس هو الهدف وإنما ما يترتب عليه، فلابد أن يكون لدينا بينة وعلم وبرهان من الله سبحانه وتعالى حتى نطلق ذلك.
يخطئ
كثير من الناس في فهم هذه الأمور، فمثلاً: شيخ الإسلام
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يكفر عباد القبور، ففهم بعض الناس من ذلك أن كل من يذهب إلى قبر ويصلي عنده فإنه كافر مرتد خارج من الملة، وللشيخ رحمه الله كلام ينفي به عن نفسه هذه التهمة، فقال بعض الناس: إن الشيخ متناقض، أو كان له رأي ثم رجع عنه، أو غير ذلك.. وليس الأمر كذلك، فإن عقيدة الشيخ ودعوته التي دعا إليها هي أن من عبد غير الله فهو مشرك مرتد... إلخ.
أما في المعينين -كما هو مذهب
أهل السنة والجماعة- فينظر في المسألة: فهل جاء هذا المعين لعبادة القبر أم لمجرد الزيارة؟ وهل هو خارج من الملة أو مبتدع؟ فإن بعض الناس لا يقع في الشرك عند القبور، وإنما يقع في بدعة.
فالمقصود أن هذا الأمر لما لم يفهم على حقيقته؛ كان ولا يزال موضع بحث ونقاش وخلاف بين كثير من الناس.
وبعض الناس يظن أن من الورع ألاَّ يطلق على فعل أو على وصف اسم الكفر أو البدعة، بل يقال: هذه أخطاء ومحرمات وأمور خطيرة... إلخ، ويقول: لا نتكلم بالكفر ولا نطلقه؛ لأنه أمر ليس بالسهل، وتترتب عليه أمور كثيرة.
فنقول له: إن كنت تقول هذا في حق إنسان لم يكفره الله ولا رسوله فهذا صحيح، وإن كنت تقوله على سبيل التحرج؛ لأنك لا تعرف المعينين ولا تستطيع أن تجزم به، فهذا أيضاً صحيح.
أما إن كنت تتحرج أو تتحرز عن إطلاق شيء أطلقه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يجوز، كما أن الذي يطلق الألفاظ بغير حق يعد ظالماً باغياً.